سورة الأحزاب - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)} [الأحزاب: 33/ 16- 20].
هذه تهديدات مبطنة وظاهرة، وتوبيخات شديدة لأولئك الذين نافقوا ولم يؤمنوا، أخبرهم أيها النبي أن الفرار لا ينجي من القدر، وأنهم لا يمتّعون في عالم الدنيا إلا تمتعا قليلا، أو زمانا يسيرا بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة. والقليل المستثنى:
هو مدة الآجال المقررة.
وقل لهم أيها الرسول، لا أحد يستطيع أن يمنعكم من مراد اللّه بكم، أو دفع السوء عنكم إذا قدّره اللّه عليكم، أو جلب الخير والنفع لكم إن أراده الله، ولن يجد هؤلاء المنافقون ومؤيدوهم مجيرا ولا نصيرا ينصرهم أو يشفع لهم.
ثم حذرهم اللّه تعالى بدوام علمه بالخائنين، ووبخهم بإخبار نبيه أن اللّه يعلم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول، ويمنعونهم بالأقوال والأفعال، ويعلم القائلين لإخوانهم وأصحابهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الإقامة في البساتين تحت الظلال والثمار، واتركوا محمدا والحرب معه، ولا يأتي المنافقون الحرب أو القتال، إلا زمنا قليلا أو شيئا يسيرا إذا اضطروا إليه، خوفا من الموت أو القتل. وهلم: بمعنى أقبل.
وصفات هؤلاء المنافقين الشخصية قبيحة جدا:
فهم أولا: قوم بخلاء أشحة بأنفسهم وأموالهم وجميع أحوالهم، لا يقدّمون منفعة للمؤمنين ولا لغيرهم بحق.
وهم أيضا جبناء، فإذا ظهرت أمارات الخوف من العدو في بدء المعركة والقتال، لاذوا بك أيها النبي، ورأيتهم ينظرون إليك، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، حذرا وخورا وضعفا، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم، بدت منهم سلاطة اللسان وتفاخروا بأنهم أهل النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون مراوغون، وسبب هذه السلاطة أنهم لا خير فيهم ولا منهم، قد جمعوا بين الجبن والكذب ونضوب الخير، فهم جبناء في الحالين: حال البأس أو الشدة، وحين جمع الغنيمة.
وسبب مرضهم الشديد الذي ينخر العظام أنهم فاقدو الإيمان، فهم غير مصدقين بالله ورسوله، وإن لم يظهروا الإيمان لفظا، فأبطل اللّه أعمالهم التي كانوا يأتون بها في الظاهر مع المسلمين، وكان ذلك الإحباط أو الإبطال لثمرة الأعمال سهلا هينا عند اللّه تعالى، بمقتضى عدله وحكمته.
وهذه الصفات القبيحة ملازمة لهم، فهم يظنون من شدة الخوف والفزع الذي ملأ قلوبهم أن أحزاب الكفر من قريش وغطفان وبني قريظة، لم يرحلوا عن المدينة، ولم ينهزموا، وأنهم عائدون إلى الحصار. وإذا استعد الأحزاب لقتال المؤمنين، تمنوا ألا يكونوا حاضرين معهم في المدينة وبين المقاتلين الصامدين، بل يكونون في البادية، يترقبون الهزيمة للمؤمنين، ويسألون عن أخبارهم وما كان من أمرهم مع العدو، شماتة بهم، وانتظارا لإيقاع الشر والسوء بهم، وجبنا وخوفا شديدا، وغرضهم من البداوة: أن يكونوا سالمين من القتال، ولو كانوا موجودين مع المؤمنين في ساحة المعركة ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا، لجبنهم وخوفهم، وهذا إيناس للنبي، وتحقير لشأن المنافقين.
غزوة الخندق:
3- حال المؤمنين في القتال وغيره:
كان أهل الإيمان الحق مثلا أعلى في الشجاعة والبطولة والصبر على لقاء الأعداء، والصدق في المواقف كلها، والتأسي التام بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم القدوة الحسنة، ولم تكن الأحداث تزيدهم إلا صلابة في الموقف وإصرارا على تحدي الأعداء، فاستحقوا أفضل الجزاء في الدار الآخرة، كما استحق المنافقون العذاب، والمشركون الهزيمة المنكرة والخيبة والفشل، وقد سجل القرآن العظيم هذه الأحوال المتباينة، وذلك في الآيات الآتية:


{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)} [الأحزاب: 33/ 21- 27].
أوجب اللّه تعالى على كل مسلم أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، حين قاتل وصبر وجاد بنفسه، في وقعة الأحزاب وغيرها، والمعنى: لقد كان لكم معشر المؤمنين، أسوة أي قدوة صالحة يقتدى به وهو رسول الله، فهو مثل أعلى لكم في الشجاعة والإقدام، إذا كنتم تريدون ثواب اللّه وفضله على العمل الصالح، وتخشون اللّه وحسابه، وتذكرونه ذكرا كثيرا في جميع الأوقات، حبا به سبحانه وتعظيما له، وخشية منه، وطمعا في فضله ورحمته، فإن ذكر اللّه تعالى دافع لطاعته، ومانع من نقمته، والتأسي برسوله. وهذا عتاب للمتخلفين، وإرشاد للتأسي برسول الله. وبما أن ذكر اللّه من خير الأعمال نبّه عليه الحق سبحانه وتعالى.
وموقف المؤمنين يختلف عن المنافقين، فحينما شاهد المؤمنون فئات الأحزاب وجموعهم الحاشدة قالوا: هذا ما وعدنا اللّه ورسوله من الاختبار بمجابهة الأعداء ثم يعقبه النصر القريب، وصدق اللّه ورسوله الوعد بالنصر، وما زاد المؤمنين تجمع الأعداء وتكاثرهم لحربهم، وصبرهم على البلاء، إلا إيمانا بالله ورسوله، واستسلاما لقضائه وقدره، وانقيادا لأمره ونهيه. والتسليم: الانقياد لأمر اللّه تعالى كيف جاء.
ويختلف موقف المؤمنين أيضا عن المنافقين بالوفاء بالعهد، فهم صدقوا العهد مع اللّه تعالى، ووفوا بما عاهدوا اللّه عليه من الصبر في حال الشدة والبأس، فمنهم من انتهى أجله واستشهد كيوم بدر وأحد، ومنهم من ينتظر قضاء اللّه والشهادة وفاء بالعهد، وما بدّلوا عهدهم وما غيروه، بخلاف المنافقين الذين ولّوا الأدبار، وبدّلوا الأقوال ونقضوا العهود. وهذا ثناء من اللّه على عباده المؤمنين الذين عاهدوا اللّه على الاستقامة التامة، فوفوا نذورهم وعهودهم، قال الحسن: قضى نحبه: مات على ما عهد.
إن تعرض المؤمنين للمحن والبلايا واختبارهم بالخوف وملاقاة الأعداء، من أجل تمييز الخبيث من الطيب، ومكافأة الصادقين في إيمانهم، بصبرهم على ما عاهدوا اللّه عليه، وقيامهم به ومحافظتهم عليه، ولتعذيب المنافقين الذين كذبوا، ونقضوا العهد، وأخلفوا الأوامر واعتذروا بالأعذار الكاذبة، فاستحقوا العذاب واللوم.
إن اللّه تعالى كان وما يزال كثير المغفرة حيث ستر ذنوب عباده ورحمهم ورزقهم الإيمان، ووفقهم للتوبة، ولم يعاقبهم على ما مضى بعد التوبة الخالصة. وهذا حث على التوبة والإيمان قبل فوات الأوان.
وكانت نهاية معركة الأحزاب أو الخندق تحقيق النصر للمؤمنين، وهزيمة الكافرين، وجلاءهم عن المدينة بعد الحصار الشديد، فقد ردّهم اللّه تعالى عن المدينة خائبين خاسرين، مع شدة غيظهم، لعدم تحقيق مآربهم، ولم يحققوا خيرا لأنفسهم، لا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة من الآثام والعذاب وإحباط الأعمال، بسبب عداوتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، ومحاولاتهم التخلص منه، بالقتل أو غيره.
وكفى اللّه المؤمنين القتال، أي لم يحوجهم إلى قتال ومبارزة، حتى يجلوا الأعداء عن بلادهم، بل كفاهم اللّه وحده شرهم، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وكان اللّه وما يزال صاحب القوة ومصدرها، قادرا على استئصال الأعداء وإذلالهم، لا يغلبه أو يقهره أحد مهما كان قويا.
وتحقيق هذا النصر الإلهي الواضح على جموع الأحزاب يستدعي الشكر والحمد لله جل جلاله، وزيادة الإيمان بقدرته، لذا كان عليه الصلاة والسلام فيما أخرج الشيخان يقول: «لا إله إلا اللّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
ثم ذكر اللّه هزيمة بني قريظة الذين تواطؤوا مع قريش في غزوة الأحزاب، فإن اللّه تعالى أنزلهم من حصونهم وقلاعهم، وأجلاهم عنها، وألقى في نفوسهم الخوف الشديد، لممالأتهم المشركين على محاربة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وصار أمرهم أن قتل المسلمون فريقا منهم، وهم الرجال المقاتلون، وأسروا فريقا منهم، وهم النساء والصبيان.
وجعل اللّه أراضيهم المزروعة ومنازلهم المعمورة وأموالهم المدخرة وأرضا أخرى لم تطأها أقدام المؤمنين في عهد النبوة، وهي التي ستفتح في المستقبل، جعلها الله كلها للمسلمين، مثل خيبر ومكة وفارس والروم، وكان اللّه وما يزال تام القدرة على كل شيء، ينصر من يشاء، ويذل من يشاء.
مضاعفة الأحكام لزوجات النبي صلّى اللّه عليه وسلم صان الله تعالى بيت النبوة الطاهر صيانة أدبية عالية، وتعهد أمهات المؤمنين بالتربية العالية القائمة على العفة والكرامة، وجعلهن المثل الطيب الذي يحتذي لنساء المؤمنين والمؤمنات على ممر الزمان، واقتضى هذا إعدادهن لمنازل الآخرة العالية، ومضاعفة ثواب أعمالهن، وزيادة عقوبتهن، فالأجر مرتان، والعقاب ضعفان.
وهذا دليل على كون القرآن الكريم كلام الله تعالى، حيث لا مجال فيه لتمييز بيت النبوة بمزايا معينة أو بخصوصيات محددة، وإنما كان التشديد عليهن هو الصفة الغالبة، ويقابله زيادة الحسنات بفعل الصالحات، قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام الخاصة:


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)} [الأحزاب: 33/ 28- 31].
أمر الله تعالى رسوله بتخيير نسائه بين التمتع بزهرة الحياة الدنيا وزخافها وزينتها وهي المال والبنون، ومتاعها، وبين الآخرة ونعيمها، فإن آثرن الدنيا وأحببنها، فارقهن وأعطاهن متعة الطلاق المستحقة: وهو مال يهدى للمطلقة تطييبا لخاطرها، وطلقهن طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة.
قال أبو الزبير: نزل ذلك بسبب أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم سأله أزواجه النفقة، وطالبنه منها فوق وسعه.
وإن خيّر الزوج زوجته في تطليق نفسها، فقال الإمام مالك: هي طالق ثلاثا، وليس للزوج الإنكار، بخلاف التمليك.
وقال غير مالك: هي طلقة بائنة.
وإن أرادت نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة، فإن الله أعد للمحسنة منهن ثوابا عظيما، يفوق زينة الدنيا. ويشير هذا إلى أن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة، كان محسنا صالحا. وحينما خيّرهن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة، اخترن جميعا الآخرة، فسّر بذلك، وشكرهن الله على حسن اختيارهن، وكرّمهن.
ثم بعد اختيارهن الآخرة خصصهن الله تعالى بمضاعفة الأحكام الشرعية في حقهن، فيا نساء النبي، من يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح، كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق، يكون عقابها مضاعفا، لشرف منزلتكن وفضل درجتكن، وكان تضعيف العذاب لكنّ يسيرا هينا على الله تعالى. ويا نساء النبي، من تطع منكن الله ورسوله بسكون وخشوع، وتخشع جوارحها، وتستجب لأمر ربها، وتعمل عملا صالحا، يضاعف الله لكنّ الأجر والثواب، بسبب كونكن من أهل بيت النبوة ومنزل الوحي، وأعد الله لكل واحدة منكن زيادة على هذا رزقا كريما خالصا في الجنة، لا عيب فيه ولا نقص. والاعتاد: التيسير والإعداد، والرزق الكريم: الجنة، ويجوز أن يقصد بالرزق: الرزق الدنيوي من حيث هو حلال وطيب.
وأزواج (زوجات) الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم اللواتي نزلت الآية فيهن تسع: خمس قرشيات:
وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية. وأربعة غير قرشيات: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حييّ بن أخطب الخيبرية، وزينت بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن أجمعين، فهن مع السيدة خديجة رضي الله عنها أمهات المؤمنين.
ولما نزلت هذه الآية، بدأ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعائشة فقال: «إني ذاكر لك أمرا، ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك» ثم تلا الآية، فقالت له: وفي هذا أستأمر أبويّ؟
فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: «وقد علم أن أبويّ لا يأمراني بفراقه».
ثم تتابع أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على مثل قول عائشة رضي الله عنها، فاخترن الله ورسوله.
وهذا ثابت في الحديث عند البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها، والرواية على لسانها.
إن هذا الاختيار الموفق من نساء النبي دليل واضح على كمالهن وفضلهن وعلو درجتهن، وعلى مدى تأثير الإسلام العظيم في صوغهن على مراد الله تعالى.
خصوصيات آل البيت النبوي:
كان لآل بيت النبوة خصوصيات ومزايا، أولها- كما في الآية السابقة: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (وهي من الجزء 22): مضاعفة الثواب والعقاب، والثانية- الامتياز على سائر النساء بشرط التقوى، والثالثة- الحزم في القول والكلام، والرابعة- القرار في البيوت والنهي عن التبرج، والخامسة- استدامة الطاعة بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله والرسول، والسادسة- التطهير من الآثام، والسابعة- السمعة الطيبة، والثامنة- تعليم القرآن والسنة.
وفيما عدا هذه الخصوصيات سوّى الله تعالى بين النساء والرجال في ثواب الأعمال والمغفرة. وهذا ما أبانته الآيات التالية:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6